نزيل القصرين
احمد بن محمد العم بن مالك
( رحمه الله )
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (مَنْ بَنَى مَسْجِدًا لِلَّهِ كَمَفْحَصِ قَطَاةٍ ، أوْ أَصْغَرَ ، بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّة رواه ابن ماجه (738)
تمنراست في 19 ماي 2003 م الموافق ل 17 ربيع الثاني 1424 ه
الإهـــــــــــــــــــــــــــــــــداء
أهدي هذا العمل المتواضع إلى أبي و عمي الشيخ محمد مالك بن مالك الذي كفلني دهرا و أنا صغيرا و علمني ما أنا فيه و حضني على القيام بهذا العمل الواجب راجيا من الله أن يضيء بهذا العمل جهود رجل كاد الزمن أن يطمسها و قد قصدت بذلك وجه الله
و أتمنى من الله أن يجعل الذي أهديته إليه من الذين شملتهم الآية الكريمة (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَٰجِدَ ٱللَّهِ مَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْآخِرِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا ٱللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُوْلَٰئكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ ٱلْمُهْتَدِينَ ) الأية رقم 18 سورة التوبة
بسم الله الرحمان الرحيم
الحمد لله وحده
المقدمة
الحمد لله الذي فطر السماوات و الأرض الحمد لله المتصرف في خلقه قبل خلق أسباب التصرف و التصريف الحمد لله الذي شرف العلم و أهله أكمل تشريف و صلى الله على محمد الذي أرسله الله إلى الأنام و جعل اللغة العربية وسيلة لمنطقه
إننا بصدد كتابة اسطر في حياة شيخ جليل علامة فهامة ملا الدنيا بعلمه و عمله انه الشيخ الإمام الجليل احمد بن مالك الفلاني الذي عاش مابين عامي 1889-1954م، قضى جل عمره داعيا إلى الله بمنطقة ‘ هقار ‘ و تحديدا في مقر إقامته بتيفرت المباركة، و لعل فن السير و التراجم يكون هو اقرب الفنون التي نقلت إلينا سير عظماء الإنسانية و التاريخ و هنا نستحضر بعض أدواته للتعريف بالشيخ و هدفنا في ذلك التأسيس لبحوث قادمة في شخصية الإمام و جهوده و دوره المتميز في الدعوة إلى الله و خاصة بمنطقة ‘ هقار ‘ فمن هو الشيخ احمد بن مالك و كيف عاش ؟ و ماهو دوره دوره كداعية ؟
* نسبه:
الحمد لله الذي خلق من الماء نسبا و صهرا فكان من قضاء الله و قدره أن البشر سماحة الشيخ الجليل محمد العم بن مالك بغلام اسمه احمد و كان ذلك في سنة 1889 سنة ميلاد كثير من عظماء التاريخ و الإنسانية في نهاية القرن 19 للميلاد ففيها ولد العالم المعلم العامل بالقران سماحة الشيخ أحمد بن مالك الفلاني رحمه الله و كان الزمان شديد الولع بالعالم المولود فكان أن هيأ له أسباب التفرد و التميز طيلة حياته .
الشيخ الإمام احمد بن مالك هو احمد بن محمد بن الحاج عبد القادر بن بابا سيد امحمد بن مالك بن أبي بكر بن أيوب بن حماد بن جلوب بن طلحة بن سليم بن سنبل بن جابر ……بن سود بن أيوب بن عقبة بن عامر الجهني الحميري صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم..
أما أمه فهي تلك المرأة الصالحة رحمها الله و تسمى بريرة و كانت من الأبرار فأحسنت تربية ابنها الذي كان وحيدها و لكنه فردا ساوى أعدادا فرحت به حين مولده و حين اشتد عوده و حين ذاع صيته.
يكنى الشيخ الإمام احمد بن مالك ( بالفلاني) لان جده مالك كني بها نسبة لأخواله الفلان و تنطق بتشديد اللام، و في كل الأحوال فان الشيخ كان يحرص في حياته على هذا اللقب فيلحقه باسمه الذي خطه بيده على رسائله و كتبه و مقتنياته و لقد وجدت بخط يده نسخة متوارثة مأخوذة من نسخة أهل مكة تحتوي على تاريخ لهذه الكنية و على أسماء الأئمة الأجلاء الذين نقل عنهم محتواها مكتوبا بخطهم.
الشيخ احمد بن مالك ينحدر من أسرة عربية كريمة المنتمى اشتهرت بالعلم منذ فجر الإسلام و هي لا تدخر جهدا في سبيل خدمته إلى اليوم، و لعل ما يشهد لها بذلك كثرة العلماء و الأئمة فيها و التي ملأت فضاء الصحراء الكبرى بعلمها و عملها في سبيل التمكين لدين الله و محاربة البدعة و الخرافة منذ القرن الحادي عشر من هجرة الرسول صلى الله عليه و سلم .
إن الشيخ الإمام احمد بن مالك الفلاني هو ذلك الوجه الإنساني النبيل الذي يغمرك بعظيم الوقار و الجلال و الهيبة التي همت سحائب علمه و فكره و عمله في حقول الصحراء و ارض الهقار و صفقت له أفانين الحروف العربية و أرخت جدائلها ليستظل بها من رمضاء الجهالة، كل من أراد الله به خيرا في حرم الرعاية و الهداية، فكان الشيخ الإمام احمد بن مالك مفردا و هو من صاغ ملحمة الإيمان في الهقار. و أسس به مرجعية دينية سنية إيمانية لا تذهب مع الأيام بإذن الله.
* نشأته و حياته:
ولد شيخنا في قرية هادئة آمنة في جنوب الصحراء الجزائرية الكبرى تسمى اقبلي التي لا يمزق هدوئها سوى ترتيل آي كتاب الله و صلوات أهلها و ذلك في سواد ليلها و بياض نهارها فهي قرية مباركة, يستظل أهلها بظلال القرآن الكريم الوارفة و لا تعرف نشاطا سوى نشاط المفلحون للأرض, و نشاط الدارسين, و المدرسين, القانتين الصابرين العابدين المتهجدين بالقرآن نافلة في سكون الليل الشبيه بالنهار في الحرارة اغلب أيام السنة, فهما و القرية محكومان بخصائص المناخ الصحراوي الجاف , تلك عي واحة الشيخ التي عرفت صباه و شبابه, و كانت منارة التائهين في ظلمات الجهل باركها الله و قصدها الزوار الطالبين للهدى أينما ثقفوا, لأنها كذلك و لأنها أنجبت كثيرا من اللامعين في دنيا العلم و المال و الأعمال و الإدارة.
التحق الفتى شيخنا منذ حداثة سنه بصفوف الدراسة, و اخذ العلم على يد شيوخ القرية, و ظهرت عليه علامات النجابة مبكرا لما كان يعرف عنه من سرعة التحصيل العلمي فأجاد في القرآن و علم التجويد و العلوم القرآنية عامة و علوم اللغة و السنة, و في نهاية دراسته وفي وقت مبكر تحصل على الإجازة من عمه و شيخه ( الإمام حمزة بن مالك رحمه الله ) كما تحصل على إجازات عديدة بعد ذلك من شيوخ آخرين.
كان الفتى من الذين ورثوا العلم و علموه, و كيف لا و هو الذي تربى في كنف أسرة علمية أسست لنفسها و لغيرها مكتبة ضخمة ضمت ما يزيد عن الألف مخطوط وما تبقى منها اليوم يفوق سبعمائة مخطوط ناهيك عن عدد كبير من المطبوعات و أمهات الكتب, ففي ظل هذا الصرح العلمي نشاء الشيخ فتخرج عالما.
* مصادر ثقافته و عوامل نبوغه:
- كان الشيخ احمد بن مالك يتميز بحدة الذكاء و سرعة البديهة, و سعة الخيال و تلك ملكات فطرية صقلها بالدرس و الممارسة فكانت له عونا على حفظ كتاب الله في وقت مبكر و روايات متعددة .
- 2. الشيخ احمد بن مالك تربى في أسرة العلم و المعرفة, فأبوه محمد بن الحاج محمد عبد القادر عالم جليل القدر باعه طويل في علوم الدين و ما يدور حولها من تراث ثقافي إسلامي غزير, فكان هذا الانتماء و الجو العلمي و الثقافي من العوامل التي شكلت شخصية الشيخ العلمية و الدينية.
- الشيخ احمد بن مالك كان فذا صبورا, مثابرا على طلب العلم حتى آخر أيامه كثير الترحال, مما جعله يتصل ببيئات اجتماعية و ثقافية متعددة أثرت رصيده الفكري و العلمي بشكل واضح و إيجابي.
- الشيخ احمد بن مالك شخصية تعتز بقيم الحرية, مما جعله يعمل على التمتع بحسناتها حتى في مصاحبته للذين كتبوا و الذين أفتوا في عصور سابقة و أخرى عاشها, و هذا ما جعله أكثر إلماما برأي العلماء حين يتفقون و حين يختلفون.
- تلقى الشيــــخ احمد بن مــــــالك على يد شيوخ أجلاء, مشـــــــــهود لهم بالعلــــم, و قد استفاد من ذلك بأقصى ما تكون الاستفادة, و في تواضع العالم سمع من الكثيرين و صحبهم عندما وجد لديهم شيئا من العلم يطمئن إليه.
- عندما تقرأ آثار هذا الشيخ تجده رجلا شديد الحرص على المطالعة و اقتناء الكتب.
- الشيخ احمد بن مالك كان رجلا عالما عاملا بما يعلم يخشى الله في السر و العلن و يؤمن بأنه لا يطلب ما عند الله إلا بتقوى الله فهو حريص على أداء الواجب نحو الله و نحو نفسه, و نحو عباد الله, انه رجل اهتم بالقرآن يتلوه أناء الليل و أطراف النهار, و يعلمه لمن اثر ذلك بالتي هي أحسن, و كان الشيخ احمد بن مالك حريصا فيما يقول أن يطلع على آراء كثيرة يطمئن في الأخير إلى بعضها, حريص على التقرب إلى الله جل جلاله بالذكر و الدعاء و قراءة القرآن عاملا في ذلك على إشاعة العدل بين الناس.
و قد شهد له بالتقوى و العلم و الصلاح كل من عاصره من خاصة الناس و عامتهم, القاصي منهم و الداني, و كانت ثقافته إسلامية عربية أصيلة, استمدها من الكتاب و السنة و التراث العربي الإسلامي, حارب بها البدع و الخرافة, أسس بها مدرسة أصيلة و غير مسبوقة بالهقار ظلت أشعتها تنير سماؤه إلى اليوم .
* رحلاته:
كان شابا يافعا لم يتم العقد الثاني من عمره عندما خامرته فكرة الرحيل من مسقط رأسه إلى حيث يشاء الله و لم يكن في ذهنه تصورا محدد لمكان إقامته في ارض الله الواسعة و هذا ما تفسره رحلاته المتعددة غلى مواطن كثيرة داخل الوطن و خارجه و لكن الله أراد أن يستقر الشيخ في هذه الأرض الموات ليقوم بأحيائها بما حياه الله من العلم و المعرفة.
– ففي سنة ألف و تسعمائة و ثمانية من اقبلي إلى تمنراست دخلها غريبا, وحيدا حيث ترك الأهل و الخلان هناك و أقام بأرضها مدة من الزمن و عاد لمسقط رأسه , فلم تتوفر له أسباب التأقلم للبقاء, و ذلك يعود لكونه لا يفقه كثيرا مما يتكلم به القوم، و هو رجل دين غريب، و هكذا تبدأ رحلة الدين و العلم غريبة, و يومئذ لم يكن يسكن هذه الأرض إلا شتات قبائل قليلة العدد و الأفراد و الأنصار, موزعة على هذه المساحات الشاسعة من ارض الله, تنقل الشيخ بينها بعد أن أقام بمنطقة أبلسة و هي قرية فلاحية ولا تزال حتى اليوم و لعل من أهم الأسباب التي دفعته للعودة من حيث جاء انه ترك زوجته هناك و لم يكن بعد قد بلغ من العمر تمام عقده الثاني إلى جانب حاجز اللغة و صعوبة تأدية رسالته في ارض لا يعرف أهلها الاستقرار إلا قليلا.
– عاد الشيخ الشاب إلى موطنه و مكث مع أهله مدة عامين كاملين ثم عاد من بعد ذلك إلى تمنراست مرة ثانية حيث التقى الشيخ محمد عبد الله الخرشي و تعرف عليه و كان له صاحبا حتى مماته سنة ألف و تسعمائة و اثنان و ثلاثون و في هذه العودة أقام سماحة الشيخ احمد الفلاني بمنطقة أبلسة و رفع بأرضها قواعد أول بيت لله في ارض الهقار سنة ألف و تسعمائة و عشرة و ما تزال أثاره ماثلة أمام عوادي الزمن و لكنه غير مغطى السطح يشهد على تاريخ رجل نذر حياته لخدمة الإسلام، و قد دامت مدة إقامته بمدينة أبلسة مدة عام كامل ثم عاد بعد ذلك إلى أقبلي و لم يمكث بها زمنا طويلا ثم عاد إلى مدينة تمنراست عام ألف و تسعمائة و ثلاثة عشر واستقر بصفة نهائية في ارض هقار, تزوج من سيدة لم ينجب معها فطلقها.
و في سنة ألف و تسعمائة و ثمانية عشر تزوج من امرأة صالحة ذات حسب و نسب و دين و كانت أما لأبنائه الثمانية منهم على قيد الحياة إلى الآن بارك الله في أعمارهم. و قد اتخذ من منطقة تيفرت دار إقامة مدة أربعة عقود من الزمان.
– لم تكن تلك رحلاته فقط فقد رحل إلى مدينة ورجلان و أقام بها فترة قصيرة, ثم عاد منها, و أثناء تواجده بالهقار سافر إلى دولة النيجر و مكث بها مدة ثلاثة أشهر, التقى فيها بالعالم جليل عقد معه صداقة متينة و أجازه أيضا و هو الشيخ محمد بم معلم برجه رحمهما الله.
* جهوده:
من يقوم برحلة تأملية في حياة الشيخ يدرك بوضوح لا يلبسه الشك, أن الرجل كان دائما يضع نصب أعينه كل عمل خير يجلب رضا الله و محبته, و يكفيه شر العذاب و أن يرحم الله ذلك العمل عباده في الأرض, و أجمل ما نقل عنه بخط يده قوله ( لا يطلب ما عند الله الا بتقوى الله ) من هذا المبدأ تنطلق أعمال الشيخ رحمه الله و اسكنه فسيح جنانه, و يمكن تلخيص ذلك فيها يلي :
- نشر الدعوة الإسلامية : إن الشيخ أحمد بن مالك كان إماما داعية, فهو لا يفتأ في أن يدعوا إلى الله و ينشر كتابه بين قوم في أشد الحاجة إلى من يعلمهم دينهم بهذا الحزم و العزم, و بهذا المستوى الذي كان عليه الشيخ, فهو صاحب الدعوة الأولى لإقامة المساجد في كل مكان و أينما كان تجمع سكاني مهما كان ضئيلا, و قد برهن على صدق ما يقول بأنه أول من عمل بذلك حين أقام أول مسجد على هذه الأرض, و هو ايضا من وضع حجر الأساس لبناء المسجد العتيق بمدينة تمنراست حاليا كما يظل يحدث الناس و يعلمهم دينهم في البدو و الحضر في الحل و الترحال داخل الوطن و خارجه, و لعل جهده المتواصل هذا, كانت من ثماره تلك المكتبة المتفردة الغنية بالنظر إلى زمن الشيخ, و قد فرض بذلك على هذه الأرض هيبة الكتاب و المكتوب حتى أصبح الناس أمة إسلامية واعية, عاملة بمقتضيات الإسلام, و لا يستوي الذين عملوا و جاهدوا في سبيل الله من قبل هذا الفتح التكنولوجي المبين, و الذين جاهدوا من بعده.
و لم يكن قبل مجيء الشيخ يعرف في هذا البلاد ما يسمى بمجالس التحديث بما جاء في كتاب الله و سنة رسوله, حتى بث فيهم روح الجلوس إلى العلماء, يمحو بذلك أثار الجهل, و يفقه الكبار في دينهم بالممارسة و القول, حتى حمل الكثير منهم قواعد الإسلام و ترجمها عملا و قولا.
و في إطار نشر الدعوة الإسلامية لم يكن الشيخ يغفل عم أهمية تطبيق ما جاء في كتاب الله, فيسر الإسلام للجميع و تعامل بمنطق الإسلام مع ما وجد عند الناس من عادات و طبائع و أخلاق, فلم يكن منفرا ولا معسرا و إنما دعا إل دين ربه و جادل بالتي هي أحسن.
الشيخ في سنوات إقامته هنا, لم يسبقه أحد في علمه التطبيقي, سوى أن الإسلام كدين و عبادات لا شك أنه عرف في هذه الأرض قبل قرون عديدة بواسطة من حمله إليها, و لكن الدين الإسلامي كمنهج حياة و عقيدة و سلوك و مدرسة لم يعرف الانتشار و الرسوخ إلا على يد الشيخ الإمام أحمد بن مالك رحمه الله.
2. تعليم كتاب الله و السنة:
إن الشيخ الإمام احمد بن مالك كان من المع الحافظين لكتاب الله بعدة قراءات, و كان أستاذا يجلس إليه في علم التجويد و علوم القرآن فقد ذاع صيته حتى بلغ مشارق الأرض و مغاربها, و لقد أجيز في القرآن على يد شيخه و عمه ” حمزة بن مالك ” رحمه الله, فكان من نافلة القول أن نؤكد على جهده المتميز في تعليم كتاب الله لمن جلس إليه و للناشئة التي اتخذت من زاويته مدرسة رغم قلة العدد, و قد رافق ذلك تعليمه للسنة و علومها, و علوم القرآن و اللغة و ما يتصل بالثقافة الإسلامية من فنون النثر و الشعر و خاصة المتضمن نظم العلوم و المديح الديني.
إن الشيخ الإمام أحمد بن مالك هو أول من أسس مدرسة للإسلام في هذه الأرض, فوضع لها طرق التسيير و التدريس كما في المدارس القديمة و في زمنه, و كان يدير شؤونها من تسيير و تدريس, معتمدا في ذلك على كتاب الله و أمهات الكتب في السنة و علوم القرآن و اللغة و الأدب العربي, و الكتب التي يعتمد عليها أهل السنة من السابقين و المتأخرين, و قد أغنى بها مكتبته الفريدة و الوحيدة التي حفظت لنا تلك الآثار التي لا تقدر بثمن إلى اليوم, و على طريقته سار من جاء بعده إلى اليوم.
3. تعليم اللغة العربية:
حيث يرجع الفضل الأول و الأخير إليه في تعليم لغة القرآن و قد ساعده في ذلك تمكنه من أدائها, و إيمانه بقدسيتها, على اعتبار أنها لغة أهل الجنة ولغة القرآن, ولا يعلم جهدا لمن جاء قبله إلى هذه الديار في هذا الحقل, و ذلك بشهادة أهل البلاد, و من العوامل التي ساعدت على نشر اللغة العربية على يد الشيخ انه كان كثير النشاط و العمل و الإيصال بالناس فهو المرجع الديني المتفرد و الذي يتعامل معه في شؤون الدنيا و الحياة كافة طبقات المجتمع, و حتى السلطة التقليدية القائمة على نظام السلطنة إذ ذاك.
4. ترسيخ و نقل تقاليد و عادات المجتمع الإسلامي بما فيها من تنوع حافل بأنماط السلوك الثقافي و الاجتماعي المستوحى من الإسلام و المرتبط بما نص عليه الكتاب و السنة, فلم يكن قبله من هذه الأنماط العائلية سوى النذر اليسير ممن قدرت لهم الإقامة بهذه الأرض و تعميرها, و غالبا ما تكون تلك العائلات موزعة على مساحات أرضية متباعدة مما يقلل من تأثيرها.
5. إن الشيخ أحمد بن مالك هو أول من أفتى في هذه الديار فكان له فضل السبق و التأسيس لمرجعية الفتوى في شؤون الدنيا و الحياة و قد ملأ الفضاء بهذا العمل النبيل, و لم يكن يستفتى يومئذ غيره, لما عرف عنه رحمه الله من تقوى و دراية واسعة بسنة الرسول صلى الله عليه و سلم و القران الكريم. و حرصه الشديد على العدل بين الناس, و قد شهد له بذلك من علمه ومن جلس إليه و من استفتاه بذلك يكون أول من وضع قواعد القضاء الإسلامي المنير بأرض الهقار. و أشاع حكمه بين الناس حتى لقي الله و تولى بعد ذلك بعده نجله الأكبر الشيخ الجليل محمد عبد القادر بارك الله في عمره. و لكن بعد إلحاح من الجهات العائلية و القبلية و حتى من جهة السلطان نفسه آنذاك حيث رفض تولي القضاء إلا بعد تزكية من سماحة الشيخ مولاي احمد الإدريسي الطاهري و طلب هذا الأخير منه تولي قضاء الهقار عندئذ و فقط وافق و لكن بشرط عدم القضاء في مسائل العقار.
6. كان الشيخ احمد بن مالك رحمه الله من الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و إقام الصلاة و لهذا كان ما يشغل باله دائما بإيجاد الوسائل التي تساعد على تأدية العبادات و على رأس تلك الوسائل المساجد, و قد رفع قواعد ثاني مسجد بقرية أبلسة و ذلك سنة ألف و تسعمائة و عشرة و الذي لا يزال قائما و بعد أن انتقل إلى منطقة تفيرت المباركة و التي عمر فيها, أقام أول مسجد مستوفى الشروط و هو مسقف, و على النمط المعماري الإسلامي و كان ذلك سنة ألف و تسعمائة و ثمانية عشر للميلاد ثم شرع في بناء المسجد ثاني سنة ألف و تسعمائة و ثلاثة و خمسون. و لم يكن الشيخ يفعل ذلك إلا انطلاقا من ثقافته الدينية و إيمانه العميق بأن خير ما ينفق فيه الجهد و المال هو خدمة الإسلام و عمارة المساجد.
7. الإمامة:
و هي عمل اقترن بالشيخ و مهمة دينية لم تعرف أصولها و شروطها و العمل بها على وجه كامل قبل أن يتولى الشيخ ذلك بنفسه, و من رحمة الله بعباده أن جعله أهلا لذلك في ظل تواجد حملات صليبية و تبشيرية مكثفة تضع يدها على مواطن الضعف لتحقيق هدفها الديني, و لعل تلازم دخول الاستعمار إلى هذه الأرض مع دخول الشيخ إليها يفسر بوضوح لا لبس فيه إن الله أراد بالعباد خيرا عندما أهدى لهم الشيخ الإمام احمد بن مالك في ذلك الظرف العصيب و الدقيق.
و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا, لقد كان المسجد ولا يزال أحب لبقاع إلى الله تعالى, فهو قلعة الإيمان, و حصنا منيع من حصون الفضيلة و الخلق الكريم, و هي المدرسة الأولى عند المسلمين التي يتخرج منها المسلم, و هو منتدى يتآلف فيه الناس و يتعارفون و يعتبر بيت الأتقياء من عباد الله, و إليه يلجأ المضطر و المسافر و القائم, هكذا فهم الشيخ الإمام احمد بن مالك رسالة المسجد, فأراد أن يجعل من ارض تفيرت بقعة من أحب البقاع إلى الله و من البقاع المباركة في هذه الأرض, عندما جعلت أول من يقام فيه بيت الله مسقف, رغم أن ذلك سبقه إقامة مسجد غير مسقف في بلدة أبلسة بحي تندهار على يد الشيخ نفسه.
– إن الشيخ الإمام احمد بن مالك عندما جاء إلى منطقة الهقار واستقر فيها إنما كان رحمة مهداة إلى المسلمين ذلك إن دخوله تزامن مع دخول المبشرين الصليبيين إلى هذه الأرض. فكان للشيخ دورا أساسيا في منع تنصير المنطقة بما نشره من ثقافة إسلامية أصيلة كان مقتديا في ذلك برسول الله صلى الله عليه و سلم الله حيث أقام المسجد في تفيرت على نمط إسلامي و بمواصفات تتفق مع ما ورد في المسجد خلال بناء الحضارة الإسلامية الخالدة فهو قد أقام المسجد و لواحقه الأساسية بان جعل للصلاة مكانا و للإقامة مكانا و للدرس مكانا, فتلك هي أهم مرافق الزاوية بمفهوم الشيخ و من جاء بعده و هي أهم المرافق التي يجب أن تتوفر في المساجد كلها حتى يمكن لها أن تؤدي رسالتها بوجه متكامل.
– و رغم أن رسالة المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم ومن جاء بعده من الخلفاء و إلى حين ظهور الدولة الحديثة, كانت رسالة تحتل الصدارة و تحتل المركز في حياة المسلمين, تلك الرسالة التي تغطي وظائف الدينية و التربوية و الثقافية و الاجتماعية و السياسية و العسكرية و غيرها مما يتصل بحياة المسلم, لم تعد موجودة في مساجد اليوم لان تلك الوظائف أنيطت بمؤسسات أخرى, غير إن مسجد تفيرت ما يزال يؤدي نفس الرسالة التي كانت للمسجد على عهود السلف الصالح و على عهد رسول الله مع فارق بسيط تمثل في ظهور مؤسسات تولت القضاء بين الناس، إن دار الضيافة الملحقة بالمسجد قائمة إلى اليوم و تؤدي رسالتها و المكتبة قائمة, و المدرسة القرآنية كذلك كل من هذه المرافق ملحقة بالمسجد و التي أقامها الشيخ ما زالت تؤدي رسالتها حسب ما وضعت له أصلا و لعل الجدير بالملاحظة أن تلك المكتبة تعتبر امتدادا لمكتبة بني مالك باقبلي و التي يوجد بها أكثر من سبعمائة مخطوط نفيس ناهيك عن المطبوعات فهي بحق كنز في جوف الصحراء و مكتبة الشيخ الإمام بن مالك بتفيرت من اكبر المكتبات من حيث عدد و نوع الكتب في زمنه.
و كذلك من حيث المخطوطات إذ تضم أكثر من ستين مخطوطا و هي بذلك كبيرة و قديمة بالنظر إلى الزمن و عصر ظهورها.
و أما المدرسة القرآنية فان اغلب الجيل الأول و الثاني من الأجيال التي تمدرست في منطقة الهقار, كانت المدرسة الأولى التي عرفهتا المنطقة و ما تزال تؤدى رسالتها و بالمجان و بالنظامين الخارجي و الداخلي إلى يومنا هذا.
10. الشؤون الدينية :
لقد أسس الشيخ الإمام احمد بن مالك, قواعد العمل في مجال القضايا الاجتماعية وفقا لما جاء به الإسلام, فهو من تولى عقود الزواج, و القضاء فيها و في غيرها من المسائل ذات الصلة بالحياة المدنية, حيث كان الناس يجدون كثيرا من العسر في التعامل معها قبل أن يتخذ الشيخ من هذه الأرض سكنا.
11. إقامة النظام الإحتفالي المناسباتي:
فهو أول من احتفل بالأعياد الدينية الإسلامية وفقا للثقافة الإسلامية المتوارثة, و المستمدة من القرآن و السنة و عمل السلف الصالح, و يكون بذلك قد أسس قواعد التعامل مع الأعياد الدينية كما العبادات, ابتداء الصلاة و انتهاء بأحياء الأعياد المختلفة, و تجدر الإشارة إلى كونه أول من احي المولد النبوي الشريف, و مدح الرسول صلى الله عليه و سلم كما هو عليه الحال في أيامنا هذه فلم تكن الأعياد الدينية قبله ذات بال أو ذات برنامج إحياء محدد و على وجه التعميم فان الشيخ احمد بن مالك هو من نقل كافة طرق و كيفيات إحياء الأعياد و المناسبات الدينية إلى هذه الأرض, و بقيت من بعده كذلك إلى يومنا هذا.
12. منزلته الدينية و العلمية:
إن منزلة الشيخ الإمام أحمد بن مالك لم يختلف حول تحديد سموها ( فضيلتها) جميع من عاصره خاصة الذين علموه, و أئمة و مشايخ زمنه داخل و خارج الوطن فكل الإجازات التي تحصل عليها و خاصة القرآن الكريم تفسير بوضوح أن الشيخ كان عبقري زمانه, و إماما في القراءات, و نموذجا في التقوى نادر الوجود بما يدرس من علوم عاملا بها في مختلف مناحي حياته.
لقد اطلعت على جملة رسائل تزيد عن ثلاثة مائة, هي مرسلة للشيخ من أئمة أجلاء و من أناس من أحب الله, و هؤلاء جميعا موزعين على مختلف طبقات المجتمع, تلك الرسائل كلها يجمع أصحابها على الاعتراف بالمنزلة السامية للشيخ, في مجالات العلوم الشرعية و يشهد له أهلها بالصلاح و التقوى, و الناس على مختلف أهوائهم و طبقاتهم إنما كانوا يستفتون الشيخ في أمورهم, و هم من كل قطر دان أو بعيد, و لعل هذا يحدد مكانة الشيخ, و منزلته بين من اشتغل في مثل ما كان فيه.
لم يكن الشيخ الإمام احمد بن مالك من ذوي فضول التأليف, أو من الذين اشتغلوا بالمخطوطات كتابة, و لعل ولعه الشديد و حرصه الدائم على تلاوة كتاب الله كانت من بين الأسباب بالإضافة إلى الاستعدادات الفطرية التي تتحكم في نشاط البشر, و في المقابل فهو إمام المقرئين في عصره و قد شهد له بذلك, و هو من اهتم بالكتاب و المكتوب, أفنى حياته بين الكتب و اللهث وراء اقتنائها و مطالعتها و العمل بما جاءت به, آخذا في الاعتبار أهمية اختيار الكتاب, و من شدة اهتمامه بالكتب و إدراكه لما تمثل من كنوز ثمينة.
و لعل منزلة الشيخ الدينية و العلمية تحددها تلك العلاقة بينه و بين الجمعية التي عرف إنها لا تضم سوى صفوة علماء الجزائر فكان الشيخ بمنزلة العالم الإمام الداعية, القاضي و الوحيد الذي ترك بالهقار ما يدل على منزلته السامية, و ما يدل على أنه كان من الرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله و عن الصلاة, عاش مجاهدا, و مات شهيدا هاجرا إلى الله, ثم أدركه الموت فوقع أجره على الله.
* وفــاته:
أقام الشيخ الإمام احمد بن مالك بأرض هقار ما شاء الله له آن يقيم فكان يعمل بإخلاص وجد و نشاط في سبيل الله و كان ذلك مابين عام 1913 و 1954, حيث عزم على تأدية فريضة الحج عام 1954 و أول عمل قام به قبل مغادرة البلاد أن أوصى أبنائه بعده بيقوى الله ثم عمد إلى توديع جميع الناس بهذه المنطقة و تصدق بما شاء الله من ماله و على العموم فانه رتب جميع الأمور بعدم عودته ثانية إلى هذه الأرض, ثم غادر تجاه بلده و مسقط رأسه اقبلي و عندما دخلها دخلها بالطريقة السنية التي يدخل بها العلماء و الأتقياء و الصالحين كل بلاد حلو بها, فقد بدأ بزيارة المقبرة ثم ذهب إلى المسجد و هنالك استقبلته القرية عن بكرة أبيها و جلست إليه, و لم يذهب إلى بيته حتى أرسل رسولا إلى ابنة عمه و زوجه الكريم يحمله سلامه إليها و يطلب منها وكلائها لإعادة عقد الزواج, و لما عاد الرسول بالوكالة عمد إلى إعادة عقد زواجه بها و هو الذي فارقها مدة تزيد عن أربعة عقود من الزمان, و حضر الناس عقد الزواج الذي عقده بنفسه, ثم دخل بيته الكريم الذي غادره سنوات طوال، و بدون موعد التقى مع الشيخ مولاي احمد الإدريسي الطاهري بعين صالح و بقي معه ثلاثة أيام و بعدها رجع للهقار وشد منه الرحال إلى البقاع المقدسة و كان رفيقه في الرحلة اخاموك الحاج موسى, و هو من ابرز من تعلم على يد الشيخ بن مالك فكان التلميذ الوحيد المرافق للشيخ حتى وافته المنية بمدينة المنيعة ولاية غرداية سنة 1954 و هو لم يصل إلى الحجاز, مات في سبيل الله, رحمه الله واسكنه فسيح جنانه إنا لله و إنا إليه راجعون فكان ممن اشارت اليه الآية الكريمة بقوله تعالى (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا الآية رقم 100 سورة النساء.
* الخاتمة :
في ختام هذه العجالة حول التعريف بحياة الشيخ الإمام احمد بن مالك يمكن أن نشير باختصار إلى مجمل ما جاء فيها وهو
1. أن الشيخ هو أول من كرس المدرسة المتجولة حيث نقل معه أثاثها البسيط ( كتب ألواح وداوة ) حيثما حل ببادية الهقار.
2. كما انه هو أول من رفع الأذان أسس قواعد المسجد في منطقة الهقار .
3. كما يعد أول من أسس النظام التعليمي الإسلامي بمنطقة الهقار في مطلع القرن العشرين.
4. لقد تولى الشيخ الإمام احمد بن مالك المناصب الدينية المختلفة من إمامة و فتوى و قضاء و صلح بين الناس كما تولى التعليم أيضا و بذلك يعد أول من أسس للفتوى مرجعية في الهقار و عمل على استقرارها و استمراريتها.
كان هذا العمل المتواضع بمناسبة إقامة أول معرض للمخطوطات التي ترجع إلى مكتبته نأمل أن نكون قد سلطنا الضوء ولو جزئيا على شخصية غنية عن التعريف بمنطقة الهقار و المناطق المتاخمة لها، و لكنها جديرة بالبحث و الدراسة لما تميزت به من خصائص نادرا ما جمعت لدى شخص واحد و لما قدمت من تضحيات و جهود في سبيل العلم و في سبيل إحياء الأرض بعد موتها و إعلاء كلمة الله رحمه الله واسكنه فسيح جنانه.
كتبها حفيده الأستاذ بن مالك عبد الرحمان بن محمد الخليفة بن احمد الفلاني يوم السابع من شهر مايو عام ألفين و ثلاثة (07 ماي 2003م )- ولاية تمنراست.
للاطلاع على المقال كاملا يرجى تحميل الملف التالي: “Word”