بسم الله الرحمن الرحيم
مسيرة التعليم القرآني والتجديد لدين الله بمنطقة الهقار
إن هذا الوطن الجزائر المجاهدةٌ التي سقيت بدماء الملايين من أبنائها قد أنجبت علماء أفذاذاً حملوا لواء تبصير الناس بشؤون دينهم. وبذلوا النفس والنفيس من أجل تعليم وتثقيف هذا المجتمع الجزائري بالثقافة الإسلامية والعربية، وفي نفس الوقت باعوا أنفسهم بالتضحية في سبيل أخذ الجزائر لحريتها واستقلالها جهاداً بأقلامهم، وتثبيت مقومات الشخصية الإسلامية والعربية التي حاول المستعمر طمسها. ووقفوا في وجه سياسات التجهيل وحملات التنصير والتبشير التي تهدف إلى تعكير صفو العلاقة بين هذا الشعب الأبي وبين منهج ربه عز وجل الذي ارتضاه له دينا. ومن جملة علماء هذا الوطن شيخنا الشيخ أحمد بن محمد العم الذي وفقه الله في أن اختار الابتعاد عن الأهل ومسقط رأسه باذلا نفسه في سبيل نشر القرآن الكريم وتعاليمه في بقعة من هذا الوطن الغالي وهي منطقة الهقار بشكل خاص، لذلك فإن موضوع مداخلتي سيكون في العناصر التالية:
- المكانة العلمية للمدرسة التي تخرج منها الشيخ.
- التعريف بالشيخ رحمه ألله.
- القراءات التي ألم بها الشيخ.
- تمكنه من علم التجويد.
- أخذه القرءان الكريم بالسند المتصل.
- الإجازات التي أخذها ومنحها الشيخ.
- رحلاته.
- المؤسسات التعليمية التي أنشأها الشيخ.
- نظام التدريس في المدرسة القرآنية.
المكانة العلمية للمدرسة التي تخرج منها الشيخ رحمه الله:
لقد نهل الشيخ أحمد بن محمد العم بن الحاج عبد القادر بن مالك من معين مدرسة شهد لها أهل عصرها في ذلك الوقت بالتفوق العلمي, هذه المدرسة هي مدرسة ساهل ببلدية أقبلي ولاية أدرار حاليا حيث تعد مركز إشعاع علمي وثقافي ابتداء من القرن 12 هجري وذلك نتيجة لنبوغ علمائها في مختلف العلوم الإسلامية والأدبية واللغوية من فقه و أوصوله وحديث وتفسير وغيرها و كذا علوم اللغة والنحو والأدب والمنطق ,و التي أسسها العلامة امحمد بن مالك جد أولاد بن مالك في العقد السادس من القرن 12 هـ ، حيث أنجبت علماء أجلاء مشهود لهم بالعلم من أمثال: الشيخ محمد عبد الرحمان السكوتي ابن أخت العلامة الشيخ حمزة بن الحاج أحمد بن مالك و قد تتلمذ على يده, هذا الشيخ الذي اشتهر بنبوغه في مختلف العلوم الشرعية وفي الأدب والمنطق. وله تأليف في ذلك منها كتاب في علم المنطق لكن بكل أسف اختفى هذا الكتاب فلم يعد موجوداً ومنها أرجوزة في علم الفرائض سماها جوهرة الطلاب في علمي الفرائض والحساب عدد أبياتها 108 بيتا كما خلف الكثير من القصائد الشعرية كقصيدته في الرد على من أنكروا تجويد القرءان الكريم وقصيدة تشيد بمقاومة أهل إينغر بتيدكلت للاحتلال الفرنسي.
ومن علماء هذه المدرسة الشيخ محمد الحسن بن السيد محمد بن الحاج أحمد القبلاوي الذي تضلع في مختلف العلوم كالفقه والنحو والحديث. وله مؤلفا في اللغة وهو شرح المقدمة الأجرمية سماه تفريج الغيوم على متن مقدمة ابن أجروم.
ومن العلماء الذين زخرت بهم هذه المدرسة الشيخ الحاج محمد عبد القادر بلعالم القبلاوي الذي تمكن من علوم كثيرة كالفقه والنحو والفرائض والعروض وغيرها ومن علماء هذه المدرسة كذلك عمدة هذه المدرسة في وقته وشيخ الذين ذكرناهم آنفا العلامة الحبر الشيخ حمزة بن الحاج أحمد بن مالك الذي كان يعد مرجعية علمية وأدبية في زمنه؛ وحامل لواء القضاء في ذلك الوقت, تخرج على يده علماء أجلاء منهم الشيخ أحمد بن محمد العم الذي ستكون محور مداخلتي حوله وحول مساره التعليمي بمنطقة الهقار , وقد خلف الشيخ حمزة بن الحاج أحمد تراثا أدبيا رفيعاً. تجسد في قصائد شعرية منها قصيدته التي نوه فيها بمقاومة أهل إينغر للاستعمار الفرنسي. وقصيدته الخالية من الحرف المنقوط وقد كانت له مطارحات شعرية في هذا الشأن، كما خلف تراثا فقهيا كبيرا تمثل في فتاوى ونوازل، كما له رسائل في مختلف علوم الشريعة منها رسالة حول علم أصول الفقه.
وبالجملة فإن مدرسة ساهل أقبلي كانت ملاذا علميا لكل طالب للعلم يريد التضلع في شتى العلوم الشرعية واللغوية ومع ذلك حاولت هذه المدرسة أن تنتقل بهذا الإشعاع العلمي إلى مختلف مناطق جنوب هذا الوطن كأدرار وتمنراست (الهقار وتيدكلت) وورقلة وغرداية والأغواط وخارج الوطن كمالي وتونس وليبيا كل ذلك بفضل رحلات علمائها لتلك المناطق والبلدان لنشر دين الله عز وجل وتعليم القران الكريم.
التعريف بالشيخ:
هو أحمد بن محمد العم بن الحاج عبد القادر بن امحمد بن مالك يتصل نسبه بالصحابي الجليل عقبه بن عامر. ولد ببلدية أقبلي ولاية أدرار وبالضبط في قرية ساهل وذلك عام 1889 م بها نشأ وتعلم حيث تخرج على يد عمه وشيخه علامة زمنه الشيخ حمزة بن الحاج أحمد بن مالك، وقد حفظ القرءان الكريم في سن مبكر على روايات عدة وقد أجيز في ذلك وكان رحمه الله يتقن علم التجويد ومتضلع في مختلف العلوم القرآنية كما انه كان فقيها. وتحصل كذلك على عدة إجازات من شيوخ آخرين في بلدته في مختلف علوم الشريعة. خلف الشيخ أولادا وتلامذة واصلو رسالة والدهم وشيخهم في توجيه المجتمع وترشيده إلى منهج الله عز وجل وأهم هؤلاء نجله وخليفته في زاويته ومدرسته بتيفرت أبلسة الشيخ محمد عبد القادر.
كان الشيخ رحمه الله يتميز بحدة ذكاء وسرعة بديهة وكان مثابرا على طلب العلم حتى آخر أيامه كثير الترحال إليه. وكان رجلا شديد الحرص على المطالعة واقتناء الكتب. وكان عالما عاملا بما يعلم يخشى الله في السر والعلن، وكان أشد اهتمامه بالقرءان الكريم تلاوة وتعليما له ومختلف علومه لطلبة العلم، وقد شهد له بالتقوى والعلم والصلاح كل من عاصره حيث استمد ثقافته من كتاب الله وسنة رسوله وبذلك تمكن من توجيه المجتمع بمحاربة البدع والخرافة فيه.
توفي الشيخ رحمه الله عن عمر يناهز 65 عاما وذلك في طريقه إلى البقاع المقدسة لأداء فريضة الحج بمدينة المنيعة ولاية غرداية عام 1954 م.
القراءات التي ألم بها الشيخ رحمه الله:
لقد تمكن الشيخ أحمد بن محمد العم من اتقان حفظ القرءان الكريم بقراءات عدة أهمها:
01- قراءة نافع بن عبد الرحمان بن أبي نعيم المتوفي بالمدينة عام 169 هـ بروايتي ورش وقالون.
02- قراءة عبد الله بن كثير المكي القرشي الذي توفي عام 120 هـ بروايتي البزي وقنبل.
تمكنه من علم التجويد:
كان الشيخ رحمه الله من الذين تضلعوا في علم التجويد قراءة نظرية بجميع مباحثه وتطبيقا عمليا أثناء تلاوته لكتاب الله عز وجل في مجتمعه الجديد وتعليمه لتلامذته الذين كانوا يدرسون في مدرسته وزاويته. وقد شهد له بذلك شيخه وعمه العلامة الشيخ حمزة بن الحاج أحمد حين قال ((يموت أحمد ويموت معه علم التجويد وعلم التوحيد)).
ولا ريب في تمكن الشيخ من هذا العلم ذلك أنه خريج مدرسة ساهل أقبلي التي اهتمت بهذا العلم، وتجسد ذلك في تدريس شيوخ هذه المدرسة لمباحثه وتطبيقهم له أثناء قراءتهم للقران الكريم فرادى وجماعات. حتى أنه من شدة اهتمامهم بهذا العلم. وتميزهم بالتضلع فيه هو تقدمهم في قراءة القرآن الكريم دون سواهم في جميع مدن وقرى توات وتيدكلت والهقار وغيرها من المناطق المجاورة.
أخذ القرآن بالسند المتصل:
لقد أخذ الشيخ رحمه الله تعالى القرآن الكريم عن شيخه الشيخ حمزة بن الحاج أحمد عن شيوخ شيخه بالسند المتصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويتجسد ذلك في ما وصل إلينا من كتابة شيخه ونصها (( يقول كويتبه المذنب البائس الجاني حمزة بن الحاج أحمد إن من منن الله علي ومواهبه لدي أن وفقني لقراءة القرآن العظيم وحفظه وإتقانه بحمد الله بقراءتي نافع وابن كثير وحصلت لي روايته عن عدة شيوخ وأعلاه عن والدي رحمه الله عن والده عن الشيخ سيدي محمد بن عمر بن سيدي عبد الرحمان بن عمر عن الشيخ المتبرك به الفاضل الأديب النبيل الأريب المشهور في أقطار الأرض على الطول والعرض السيد أحمد الحبيب السجلماسي اللمطي وعن شقيقه النبيه المشارك سيدي صالح بن محمد الغماري والد الشيخ سيدي محمد المكي السجلماسي من روايتي ورش وقالون عن نافع وروايتي البزي وقبيل عن ابن كثير و أخذهما معا عن جماعة من المغاربة و المشارقة و منهم العلامة شهاب الدين محمد البناني الدمياطي النقشدي. وهو عن جماعة منهم العلامة الشيخ علي الشبراملسي وهو عن الشيخ عبد الرحمان اليمني وهو عن والده وعن الشهاب أحمد السنباطي. وقرأ السنباطي على الشيخ شحاذة اليمني والد الشيخ عبد الرحمان المذكور. وقرأ الشيخ شحاذة على الشيخ أبي النصر الطبلاوي وعلى شيخ الإسلام زكرياء الأنصاري وقرأ شيخ الإسلام على الشيخين البرهان البلقيني والرضوان أبي نعيم العقبي. وقرأ كل منهما على إمام القراء والمحدثين أبي الخير محمد بن محمد الجزري. رواية قالون عن طريق أبي نشيط من طريق الشاطبية عن أبي محمد عبد الرحمان بن علي البغدادي المصري عن محمد بن أحمد المعروف بالصائغ عن علي بن شجاع صهر الشاطبي عن الإمام أبي القاسم الشاطبي عن محمد بن علي النفزي عن محمد بن الحسن بن محمد بن غلام الفرس عن أبي داود سلمان بن نجاح عن أبي عمر الداني عن فارس بن أحمد عن أبي الحسن عبد الباقي بن الحسن المقري عن إبراهيم عن عمر المقري عن ابن بويان البغدادي عن أبي نشيط عن قالون.
وأما طريق الأزرق عن ورش فرواها ابن الجزري بالسند المذكور إلى أبي عمر الداني عن خلف بن إبراهيم بن محمد بن خاقان عن أبي عبد الله محمد بن عبد الله الأنماطي عن أحمد بن إسحاق بن إبراهيم الخياط عن إسماعيل بن عبد الله النحاس عن أبي يعقوب الأزرق عن ورش وقرأ قالون وورش كلاهما عن نافع عن سبعين من التابعين منهم الأعرج والزهري والأعرج عن ابن عباس رضي الله عنهما وعن أبي هريرة وغيرهما رضي الله عنهم. والزهري عن سعيد بن المسيب وهو عن ابن عباس وأبي هريرة وهما عن أبي بن كعب وهو عن سيد الأولين والآخرين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وقرأ رواية البزي عن أبي ربيعة عن النقاش عن ابن عبد العزيز الفارسي عن الشيرازي عن الحماصي عن القيسي عن ابن مسرور عن النهواني عن ابن كثير وأما طريق قنبل فعن أبي أحمد السامري من طريق الشاطبية والتيسير عن ابن بليمه عن ابن بكر بن ثابت عن العباس الصيّقلي عن الصفراوي عن أبي خلف عن ابن فارس عن ابن شريح عن الطرسوسي عن أبي القاسم الخزرجي عن ابن كثير.
وقرأ البزي وقنبل كلاهما عن ابن كثير عن السائب عبد الله بن السائب المخزومي عن مجاهد بن جبير المكي عن درياس مولى ابن عباس عن ابن عباس عن أبي بن كعب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وعن أبي بن كعب وزيد بن ثابت رضي الله عنهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الإجازات التي أخذها ومنحها الشيخ:
لقد أخذ الشيخ إجازات عديدة من شيوخه الذين درس على أيديهم وأهمها إجازة شيخه وعمه الشيخ حمزة بن الحاج أحمد بن مالك ونصها ((وأقول قد استجاز هذا العبد الفقير من يستطيب وده ولا يستطيع رده ولدنا أحمد بن محمد بن عمنا وإن كنت لست أهلا لهذا المطلب العزيز فقد أجزته ما هنا وأن يحدث به عني ولم استثني عنه منه حرفا واشترط عليه ما اشترطه أهل هذا المهيع الرفيع وأواكد عليه بالدعاء لي ولأولادي بالختم الحسن ولوالدينا وأشياخنا وبالغفران والعفو عن الزلات. كتبه بغرر آخر الجمادين عام أربعة وثلاثين وثلاثمئة وألف.
وقد أجاز الشيخ أحمد بن مالك رحمه الله في هذه القراءات التي أجيز فيها عن شيخه كل من نجله الشيخ محمد عبد القادر وإخوانه ونص الإجازة يقول ))وبعد فقد أجزت ولدي محمد عبد القادر فيما أجازينه شيخنا المذكور أعلاه بالشروط المتقدمة وأجزت من مبلغ من إخوانه مبلغه محمد الخليفة ومحمد إبراهيم ومحمد مالك كتبه بيده الفانية المجاز أحمد بن محمد المذكور أعلاه وفق الله الجميع لما يحبه مولانا ويرضاه وختم لنا وللمسلمين بالسعادة آمين كتبه في ثمان خلون من جمادى الآخرة غام خمسة وستين وثلاثمائة وألف ))
رحلات الشيخ:
لقد انتهج الشيخ رحمه الله منهج الترحال في سبيل بناء محضاً تعليمي للقرآن الكريم وعلومه. وتوجيه وإرشاد الناس لدينهم في إحدى مدن وقرى هذا الوطن وبالفعل فلم يتم العقد الثاني من عمره عندما خامرته فكرة الرحيل من مسقط رأسه ساهل أقبلي إلى حيث يشاء الله ولم يكن في ذهنه تصور محدد لمكان إقامته في أرض الله الواسعة. وهذا ما تفسره رحلاته المتعددة إلى مواطن كثيرة داخل الوطن وخارجه. ففي سنة ألف وتسعمائة وتسعة 1909 م اتجه إلى منطقة الهقار (ولاية تمنراست) بعد ما عرج على بلدة ورجلان (ولاية ورقلة) حيث دخلها غريبا وحيدا بترك الأهل والخلان في بلدته ساهل بمنطقة اقبلي, وأقام عامين وبالضبط في قرية ابلسة التي تحتضن اليوم هذا الملتقى الثاني لمشائخها وفي نفس الوقت كان الشيخ رحمه الله يتنقل في ربوع تمنراست ناشرا لكتاب الله عز وجل وعلومه؛ ولكنه بعد تمام الحولين عاد إلى مسقط رأسه لصعوبة رسالته التي رحل من أجلها وهي تعليم الناس وتوجيههم و إرشادهم ذلك لأن الشيخ لم يكن يفقه كثيرا لسان أهل المنطقة (اللهجة التارقية). ويومئذ لم يكن يسكن هذه الأرض إلا شتات قبائل قليلة العدد والأفراد لا يعرفون الاستقرار إلا قليلا حسب المناطق التي تمكنهم من الرعي ومن أسباب عودته أنه ترك زوجته وأهله هناك في منطقة أقبلي.
وبعد أن مكث مع أهله مدة عامين عاد مرة أخرى إلى تمنراست سنة 1914م حيث التقى بالعلامة الحبر محمد عبد الله الخرشي الشنقيطي الموريتاني وتعرف عليه وكان له صاحبا حتى مماته سنة 1930م والذي اقبر ببلدة ابلسة، وفي هذه العودة حث ونادى الشيخ رحمه الله صحبة الشيخ محمد عبد الله الخرشي الشنقيطي الموريتاني في الأهالي على بناء مسجد بقرية أبلسة في أواخر العقد الثالث من القرن العشرين و الذي تولى الإمامة به الشيخ محمد عبد الله الخرشي، كما نشير الي ان شيخنا قد التقى وصاحب الشيخ محمد يحضيه السملالي مدة من الزمن والذي دخل منطقة الهقار قادماً اليها من بلاد الشنقيطي “موريتانيا” في العقد الرابع والذي استخلف الشيخ محمد عبد الله الخرشي بمسجد ابلسة بعد وفاته اماماً ومدرساً، واستقر بصفة نهائية في أرض الهقار حيث اتخذ من منطقة تيفرت (تيفرت الشرقية) دار إقامة له مدة أربعة عقود من الزمن. وأنجب أولادا حملوا لواء تبليغ كتاب الله وعلومه من بعده وفي هذه المنطقة (تيفرت الشرقية) أنشأ محضنا تعليميا لتعليم الناس وتوجيههم وإرشادهم لدين الله عز وجل وتمثل ذلك في المسجد الذي أقامه ومدرسته لتعليم القرءان وعلومه وزاويته التي تعد أول زاوية في المنطقة التي كانت ملاذا للقادم إلى هذه المنطقة وكل هذه المؤسسات لا زالت موجودة إلى الآن بقيادة نجله وخليفته الشيخ محمد عبد القادر.
ولم تكن تلك رحلاته فقط. فقد رحل إلى مدينة ورجلان (ولاية ورقلة) في البداية وأقام بها فترة قصيرة ثم توجه منها إلى منطقة الهقار والتي استقر فيها في الأخير والتي انطلق منها في رحلة إلى دولة النيجر ومكث بها مدة ثلاثة أشهر التقى فيها بعالم جليل عقد معه صداقة متينة واجازه أيضا وهو الشيخ محمد معلم برجي رحمهما الله.
المؤسسات التعليمية التي أنشاء الشيخ:
بمجرد استقرار الشيخ رحمه الله بمطقة تفرت الشرقية بادر إلى بناء وإنشاء محاضن تربوية وتعليمية من أجل تعليم القرآن الكريم ومختلف علوم الشريعة والآداب واللغة فقد أنشأ ما يلي:
1- المسجد: لقد بدأ أول ما بدء به رحمه الله بعد أن حط رحاله مستقرا بمنطقة تيفرت الشرقية ان شيد أول مسجد بها مكتمل البناء وعلى النمط المعماري مشابها تقريبا لمسجد مسقط رأسه ساهل و ذلك سنة 1918 م و الذي تلتصق به مباشرة قاعة لتدريس القرءان، كما قام ببناء مسجد آخر قرب المسجد الأول و الهدف من ذلك توسيع مساحة الصلاة و التطوير سنة 1953 م و الذي شهد أيضا تجديدا وتوسعة على يد نجله وخليفته والسائر على نهجه وطريقته عمنا الشيخ محمد مالك بن مالك بالمواد الحديثة و ذلك سنة 2002 م .
وبعد أن تم بناء هذا المسجد شرع الشيخ رحمه الله في تجسيد هدفه من رحلته من مسقط رأسه إلى ارض الهقار. وذلك بإمامة الناس فيه. وبث الوعي الديني وتوجيه الناس إلى التمسك بهذا الدين خصوصا وأن هذه المنطقة – منطقة الهقار – كانت ولا تزال هدفا للهجمة التنصيرية. فبفضل ما قام به الشيخ رحمه الله تعالى من توعية وتوجيه في هذا المسجد أو في خلال حله وترحاله في ربوع الهقار بفضل كل ذلك لم يجد القائمون على المؤسسات التنصيرية صدى لجميع ما قاموا به من أعمال وجهود في سبيل تحقيق أهدافهم.
ومن خلال هذا المسجد فإن الشيخ كان له فضل السبق والتأسيس لمرجعية الفتوى في أمور الشرع؛ وقد ملاء الفضاء بهذا العمل النبيل. ولم يكن يستفتى يومئذ غيره لما عرف عنه رحمه الله من تقوى ودراية واسعة بالقرآن وعلومه وأقوال الفقهاء والعلماء.
ومن خلال المسجد ولحرصه الشديد على العدل بين الناس تصدى للقضاء فكان أول من أرسى قواعد القضاء الإسلامي بأرض الهقار كما كان له الدور الفعال في الصلح والمصالحة بين الناس.
2- المدرسة القرآنبة: لقد أسس الشيخ رحمه الله محضنا هاما لتحفيظ القرآن الكريم وتعليم مختلف علوم الشريعة والآداب واللغة. وتمثل ذلك في المدرسة القرآنية التي تم إنشاؤها سنة 1918م وبدأت نشاطها ورسالتها باستقبال التلاميذ الوافدين إليها من مختلف ربوع أرض الهقار.
3- المكتبة: لقد شهدت المكتبة التابعة للزاوية ثراء كبيرا في حياة الشيخ رحمه الله تعالى فقد ضمت في رفوفها عددا كبيرا من المخطوطات القديمة النادرة ويبلغ عددها زهاء سبعين عنوانا بالإضافة إلى الكتب المطبوعة كما تحتوي عددا كبيرا من الرسائل الموجهة للشيخ سواء داخل الوطن أو من خارجه فكانت هذه المكتبة معينا لتعليم وتثقيف الوافدين للزاوية والمدرسة.
نظام التدريس وكذا المدرسة:
1- النظام الداخلي للمدرسة:
المدرسة في حياة الشيخ كانت تتمتع بنظامين:
أ- النظام الداخلي بالنسبة للطلبة الوافدين إليها من أماكن بعيدة كمدينة تمنراست والبوادي. فالطالب في هذا النظام إما أن يقيم على كفالة شيخ الزاوية والمدرسة. أو يقيم عند أحد الأسر المقيمة في المنطقة على حسب الانتماءات العائلية.
ب- النظام الخارجي وهذا النظام يخص الطلبة الذين يدرسون بالمدرسة ومقر سكناهم القرى والمجتمعات السكنية المجاورة لموقع المدرسة وبالخصوص مقر سلطنة الهقار بوادي تيولاولين وتيفرت الغربية وسيلت بالإضافة إلى مناطق أخرى.
2- المنهاج المدرس في المدرسة:
بالنظر إلى التكوين الجيد للشيخ في مختلف علوم الشريعة واللغة، والذي اكتسبه وأجيز فيه من شيوخه كما أسلفنا في بداية هذه المداخلة. فإن منهاج التدريس كان ثريا ومتنوعا فكانت أهم المواد المدرسة بعد تحفيظ كتاب الله عز وجل هي:
- تفسير القرءان وتدريس أحكام التجويد.
- الفقه بمختلف مباحثه ومحاوره.
- الحديث النبوي الشريف (صحيح البخاري – الموطأ)
- اللغة العربية.
3- برنامج الدراسة في المدرسة:
لقد كان البرنامج الدراسي في المدرسة حافلا بحيث يعيش الطالب جميع يومه في نشاط مقسما زمنيا كالأتي:
يستيقظ الطالب فجرا لأداء صلاة الصبح.
– يحضر الطالب الحزب الراتب الذي يقرأ في المسجد كل صباح مشفوعا بأدعية. ويأذن له بعد ذلك بمحو اللوحة استعدادا للجديد أو أنه يعيد الحفظ إذا لم يتمكن من ذلك.
– استراحة يتناول فيها الطالب فطور الصباح.
– يعود الطالب لكتابة جزء جديد من أجزاء القران الكريم كل حسب مستواه التعليمي وقدرة حفظه، وتعرض الألواح على الشيخ وبعضها يكتبه هو إذا تعلق الأمر بصغار السن.
– المرحلة الموالية تبدأ تقديرا من الساعة العاشرة إلى منتصف النهار وتخص الطلبة البالغين يتناول فيها الشيخ الفقه بشرح أمهات الكتب فيه كالرسالة وغيرها وكذا الحديث كالبخاري والموطأ وعلوم التجويد.
– بعهد صلاة الظهر في المسجد يقصد الطلبة المدرسة القرآنية لحفظ ألواحهم وتنتهي الحصة إذا رفع إذن العصر.
– بعد صلاة المغرب يجلس الطلاب والمصلون لقراءة حزب المساء اليومي.
– بعد الانتهاء من الحزب الراتب يذهب الطلاب إلى المدرسة لقراءة ألواحهم حتى آذان العشاء.
– ما بين رفع الآذان وصلاة العشاء يراجع الطلبة القصائد التي نظمت في الفقه الإسلامي والفرائض وغيرها.
وفي الختام فإن مسار الشيخ التعليمي من خلال زاويته ومدرسته القرآنية والمسجد الذي أسسه ومن خلال ترحاله إلى مختلف ربوع الهقار من أجل توعية الناس وتوجيههم إلى دين الله عز وجل فإن الشيخ خلف ثمرة طيبة تمثلت في تلامذته الذين حملوا رسالته وواصلوا مشواره وأهم هؤلاء الشيخ محمد عبد القادر نجله وخليفته الذي واصل منهج والده في تسيير الزاوية والمدرسة القرآنية والمسجد.
وفي المقابل فإن تلك الرحلات التي كان يقيمها الشيخ فهي مصلا ومضادا حيويا ومناعة ضد حملات التنصير والتشويش على هذا الدين في ذلك الوقت وبذلك وطد الشيخ العلاقة ما بين المجتمع والدين الإسلامي.
إعداد السيد بن مالك احمد مدير الشؤون الدينية لولاية تمنراست
وعضو المجلس الإسلامي الأعلى
بتاريخ 30 جويلية 2009م